بين النسوية والموضة... تاريخ مد وجزر
على ضوء أحداث ثورةٍ نسويّة خاطبت جمهور أسبوع الموضة النيويوركيّ من على منبر منصّته خلال شهر فبراير من هذا العام، مكرّسةً نضال أكثر من قرن في موجته الثالثة، يعود سؤال كلّ أنثى حريصة على هويّتها إلى واجهة تساؤلاتنا: بين القضيّة والبعد الترويجيّ-الاستهلاكيّ، إلى أيّ مدىً تبادلت النسويّة والموضة الأدوار في استخدام الواحدة للأخرى على مرّ العقود الماضية؟ وأين المرأة منهما اليوم؟ التفاصيل في تواريخ دوّنت معظمها نساءٌ رائدات على صفحات الموضة، نُبحر تالياً في مضامين سطورها وتأويلاتها.
بعد سباتٍ عميقٍ دام العشرين عاماً ونيّف، أمّنه "تحرّر" المرأة من سلطة المجتمع الذكوريّ، متسلّقةً سلّم عالم الأعمال، سلّمه الحصريّ في ما مضى، تحت عباءته أو ما عُرف ابتداءً من ثمانينيّات القرن المنصرم بالـPower Suit، استفاقت النسويّة على فجر مطالب جديدة، لمّا استُبيحت حرّيّتها المكتسبة في موضة كلّ الإجازات، واستحالت المرأة، أيقونة الأمس، دميةً تحرّكها أنامل صنّاع الأناقة الاستهلاكيّة المعاصرة، واستحالت المرأة، أيقونة الأمس، دميةً تحرّكها أنامل صنّاع الأناقة الاستهلاكيّة المعاصرة، ومعيارُ قياساتها خياليّةً، عبر قامات عارضاتٍ أقلّ ما يقال عنهنّ أنّهنّ بالغات النحول وغير بالغات العمر في قسمٍ كبيرٍ منهنّ، نتحفّظ على ذكر أسمائهنّ...
لعلّها نظرة تشاؤميّة، إنّما عبّر عنها بصريح الإطلالة عرض Alexander McQueen لخريف وشتاء 2009-2010، وترجمتها لاحقاً، بصريح العبارة هذه المرّة، ماريا غراتسيا كيوري Maria Gracia Chiuri في أوّل مجموعة ربيع وصيف تحمل توقيعها لدار Dior العام الفائت، فكرّت السبحة على منصّات أسبوع نيويورك للموسم القادم. We Should All Be Feminists صرخةٌ بالأسود، من دون علامة تعجّب، طبعتها المصمّمة الإيطاليّة على تي-شيرت بيضاء؛ إطلالةٌ من الأبسط كأنّ بها تتجرّد من معايير أناقةٍ أنثويّة لمعانقة قضيّة هي بذاتها أنثويّة؛ إطلالةٌ تبنّتها نجماتٌ من الصفّ الأوّل، أمثال ريهانا وجينيفر لورنس، مروراً بمدوِّنات موضة كـ كيارا فيرّانيي، وصولاً إلى الشارع. هو الشارع نفسه الذي شهد أولى موجات حركة النسويّة في عصر الأنوار وأوّل ركوب للمرأة على الدرّاجة الهوائيّة بتنّورةٍ مجموعةٍ في وسطها على شكل سروال في أواخر القرن التاسع عشر... إلى تلك الحقبة.
سروالٌ بقلم محرِّرة
لم تكتفِ مناهِضة حقوق المرأة ومحرّرة أوّل جريدة نسويّة في التاريخ The Lily من استراق النظر إلى إطلالة رجل القرن التاسع عشر بكلّ ما توحيه قصّةً وخامةً من راحةٍ وعمليّة وحرّيّة في التحرّك، وربّما حرّيّة في العيش... الأميركيّة أميليا بلومر Amelia Bloomer خلعت عنها طوق الكورسيه وخرجت من قفص التنّورة الداخليّة والثوب الذي لم تألَف حاشيته غير الأرض مرسىً لها واليد (يد الرجل المرافِق) التي تتّكئ عليها في مشيها، وتجرّأت عام 1851 على تجربة زيّ الخصم على نفسها وإشراك قريناتها بها على صفحات الجريدة المذكورة عبر رسمٍ أحدث ثورةً في مجتمع تلك الحقبة وموجة رعبٍ في صفوف الرجال، الذين خافوا على هويّتهم الذكوريّة ومصدر سلطتهم من احتماليّة محو الفروقات المرسيّة بين الجنسين.
بيد أنّ هذا السروال المتحوِّل، المستقاة خطوطه من الشروال التركي، والذي بات رمزاً من رموز الحركة النسويّة آنذاك، قوبِل أيضاً برفض الـSuffragettes أو المناضلات بحقّ اقتراع المرأة، بحجّة أنّ تغيير الإطلالة خطوةٌ ظاهريّة تشيح النظر عن غايتهنّ الأساسيّة وتنتقص من قدرتهنّ كنساء على تحقيق مطالبهنّ. فكان أن تخلّت غالبيّة السيّدات عن ارتداء زيّ الـBloomer، كما شاعت تسميته تيمّناً بمطلقته، حتّى بداية القرن التالي،- عبر زيّ الباجاما النهاريّ والمسائيّ بتوقيع كوكو شانيل Coco Chanel -، مع استثناءٍ أدخلته الدرّاجة الهوائيّة على نمط عيش ثمانينيّات ذلك القرن، محرّرةً نساء الحقبة الفيكتوريّة من قيودهنّ ومكرّسةً النسويّة الأميركيّة، عبر التنّورة-السروال، ترافقها لفّافة ساق مقاوِمة للماء، تذكّر بالجزمات العسكريّة، وسترة لم تتخلَّ عن قصّة كمّ الـGigot، الفضفاض على الكتف والضيّق عند المعصم من دون كشكش أو زركشة.
إشارةً إلى أنّ هذا الكمّ هو نفسه الذي روّجه بالتزامن الرسّام الأميركيّ تشارلز دانا جيبسون Charles Dana Gibson من خلال رسوماتٍ لامرأته المثاليّة The Gibson Girl، التي ترتاد الجامعات كما المقاهي، هي ذات الشعر المصفّف بتسريحة شينيون مرتخية والزيّ المؤلّف من قطعتين، قميص وتنّورة، بدلاً من الثوب، واليدين العاريتين من أيّ قفّاز، تمهيداً لأوّل إطلالة أزياء جاهزة مخصّصة للمرأة العاملة ولممارسة رياضة الغولف، والمستوحاة قميصها التي تنتهي عند حدود الخصر Shirtwaist من قميص رجل العصر.
قَصّة شَعر تختزل ثورة عصر
"الشعر المقصوص على طريقة الـBob هو حالةٌ ذهنيّة وليس مجرّد طريقة جديدة لتزيين رأسي. إنّه يجسّد نضجاً، حالة تأهّب، مواكَبةً للعصر، ويشكّل جزءاً من التعبير عن دفعٍ حيويّ! إنّه ليس مجرّد موضة اللحظة..."؛ هكذا افتتحت إلين ويليس بايج Ellen Welles Page حقبة عشرينيّات القرن الماضي في مقالها الشهير A Flapper’s Appeal to Parents المنشور في مجلّة The Outlook عام 1922، مُظهرةً الخيط الرفيع الذي يفصل الموضة-الصيحة عن الموضة-الظاهرة، النسويّة بامتياز. فعلاً لم تكن مجرّد صرعة، تلك القصّة الملساء المحدّدة بالغرّة العبيّة والسالفتين على شكل فاصلتين والرقبة المكشوفة، تلك التي رافقت فساتين تجاسرت فشفّت عن أسفل الساقين، ونساءً بتن أكثر انشغالاً بقيادة السيّارة، وحتّى المشاركة بسباق السيّارات، وامتداداً المشاركة في الحياة الاجتماعيّة، على إمضاء مساحةٍ واسعة من وقتهنّ في تصفيف شعرهنّ...
من جهتها، حملت الفنّانة الاستعراضيّة وممثّلة الأفلام الصامتة لويز بروكس Louise Brooks هذه الراية في إطلالة شعرها الأسود اللمّاع من على الشاشة الفضّيّة ومن خلال أدوار جريئة في إطارها، تعرض نمط عيش عصريّ، كان بادئها دور Lulu في فيلم Pandora’s Box عام 1929. انتشرت هذه الموضة في صفوف فتيات الـFlappers المتحرّرات وقوبلت برفضٍ جماعيّ، خصوصاً بعد الفوضى التي أحدثتها الحرب الكبرى على الحياة الاجتماعيّة، ففرضت بعض المؤسَّسات على موظّفاتها "الجسورات" اعتمار قبّعات حتّى ينمو شعرهنّ كفاية لإظهاره.
إلى الثلاثينيّات، حين أعادت كوكو شانيل Coco Chanel رسم خطوط البدلة المؤلّفة من سترة وتنّورة، بأناقة عمليّة حدّدت هويّة المرأة الـDandy أسوةً برجل الطبقة المخمليّة، هويّة امرأة بدأت تتعاطى الشأن العام، مطوّعةً وسائل الدانديّة الذكوريّة في مادّة فخرٍ وكِبَر من صناعةٍ أنثويّة.
* "لقد قصّت شعرها"، غلاف أسطوانة غنائيّة من العام 1924، للموسيقار Alexandre Dréan، تعكس ثورة العصر.
ربيع الستينيّات
عقداً قبل أحداث أيّار 1968، أطلق كريستوبال بالنسياغا Cristóbal Balenciaga فستان الـRobe-sac، أو الثوب على شكل كيس، تزامناً مع تفعيل نشاط الحياة النسائيّة اجتماعيّاً وتسهيلاً لحرّيّة حركتها، وتماشياً مع موجة الطلاقات العارمة وشيوع نموذج "الفتاة العزباء"... الانحناءات الأنثويّة المحدّدة التي رسّخها مجمل موضة الخمسينيّات بواسطة الكورسيه، اختفت خلف تصاميم هندسيّة استقاها صاحب النظرة المستقبليّة أندريه كورّيج André Courrèges من أزياء الفضاء، وأخرى من توقيع نظيره الفرنسيّ بيار كاردان Pierre Cardin، نكشف عنها في الصور؛ إلى حواشي التنانير التي بلغت أوج قصرها عام 1964 مع رائدة تنّورة الـMini-Skirt، الإنكليزيّة ماري كوانت Mary Quant، فكان كورّيج أوّل من نقلها إلى ساحة الموضة الفرنسيّة في مجموعته لربيع وصيف 1965، مكمّلاً إطلالتها بتفصيل الجزمات المسطّحة والمرنة، لترافقها صيفاً وشتاءً على السواء. وهكذا اكتسبت الموضة نفحةً شبابيّة، بات من خلالها الفصل بين الوالدة وابنتها أمراً ممكناً، وكانت العارضة النجمة تويغي Twiggy خير تمثيلٍ لها في إطلالاتها "الأندروجينيّة" من قصّة شعرها حتّى كعب حذائها.
ولعلّها لم تكن وليدة الصدفة أوّل مجموعة أزياء للمبدعة صونيا ريكييل Sonia Rykiel، التي أطلقتها في نفس أيّار من سنة 1968، من قلب مخيّلتها الحميمة التي أخرجت مفهوم La Démode، بما يوحي به من كسر لقواعد الموضة التي كانت تقيّد حرّيّة المرأة التي في ذهنها، وهذا عبر الكنزة المقلّمة ألواناً، قطعتها الأيقونيّة. إلى العام 1974، بعد أن بات سروال البنطلون حقّاً مشروعاً للسيّدات، أعادت ديان ڨون فورستنبيرغ Diane Von Furstenberg شيئاً من الأنوثة، إنّما الجريئة، إلى زيّ امرأة عصرها، عبر فستانها الذي يُغلَق ويُفتح بحركة سلسة يلبّيها حزامٌ من قماش، وقد استوحت معالمه من فستان سلفها الأميركيّة كلير مكّارديل Claire McCardell، التي أحدثت الاستثناء في حقبة الخمسينيّات من خلال فساتينها المرنة المخصّصة للمرأة في مختلف أدوارها، فزوّدتها بأجياب عمليّة وحزام يُغني عن مشدّ الكورسيه وأزرار تسقط حكم السحّاب الخلفيّ.
منصّةٌ لا تهدأ
قبل أن "تحرّر كوكو شانيل Coco Chanel المرأة"، لـ"يعطيها (لاحقاً) إيف سان لوران القوّة"* من خلال بدلة Le Smoking الأيقونيّة عام 1966، ومنذ ما يقارب المئة عام، حلُمت كاثرين هيبورن Katharine Hepburn طفلة التسع السنوات بأن تكون صبيّاً، "لاعتقاد(ها) أنّ الصبية كانوا يحتكرون كلّ المرح"، فارتأت أن تطلق على نفسها لقب "جيمي" Jimmy، شخصيّة بديلة تخبر الكثير عن امتهانها فنّ التمثيل وتقول فيها: "لقد خلقتُ "جيمي" للآخرين، في الصميم لم أكن أشعر بأنّني "جيمي""**. فكانت البدلة الرجاليّة حليفة إطلالاتها السينمائيّة والعلنيّة التي صدمت جمهور الشاشة الذهبيّة في الثلاثينيّات، والتي كانت تبحث تحت غطائها عن الأنثى الحرّة الكامنة في وجدانها.
في فجر الألفيّة الثالثة، ماذا يعني أن تتّخذ فنّانةٌ شاملة وعارضة أزياء مثل جانيل مونيي Janelle Monáe إطلالة التوكسيدو أسلوباً لها، هي المدافعة عن حقوق المرأة في أكثر من أغنية وموقف، والتي "لا تؤمن بالفرق بين الأزياء الرجاليّة والنسائيّة"، بل تدعو إلى "وجوب احترامنا (كنساء) لكوننا أفراداً"؟ لربّما الجواب هو نفسه الذي دافع من خلاله إيف سان لوران عن "حقوق" بدلته-الأيقونة وقدرتها على التصدّي لعجلة الوقت، "لأنّها تعبّر عن أسلوبٍ، وليس عن موضة (...)".
من الموضة إلى الأسلوب، فالموقف النسويّ الذي استهلّت به عروض نيويورك في شباط الفائت أسابيع الموضة لخريف وشتاء 2017-2018، حيث حُوّلت المنصّات إلى منبرٍ لمؤسِّسات حركة Women’s March في عرض Mara Hoffman، ومسرحاً لفرقة Milck في عرض Rebecca Minkoff، وليس آخراً، ساحةً لـ تي-شيرتات جوّالة تقدّمتها واحدةٌ تحمل عبارة The Future is Female في نهاية عرض Prabal Gurung. واللافت أنّ جامعها ثنائيّ الأسود والأبيض، كأنّ به حداداً – نترقّب الولادة الجديدة – على نسويّةٍ افتخرت بها في بداية القرن العشرين مناضلات حقّ المرأة بالاختراع عبر أشرطةٍ من ألوان الأبيض والبنفسج والأخضر باتت شعارها؛ ألوانٌ لعلّها لا تحمل نفس معاني ألوان المسيرة "المرحة" التي قادها كارل لاغرفيلد في عرض Chanel لربيع 2015، على وقع صرخة: "ماذا نريد؟"، التي لوقِيت بجوابٍ ساخر همست به رئيس تحرير Vogue آنا وينتور، نترك لحشريّة القارئة البحث عن مضمونه والحكم على تأويله...
إقرئي أيضاً:
سير ذاتية وكتب بقلم أشهر مصممي الأزياء في العالم
أضف تعليقا